الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية بقلم الأستاذة ومعدّة برنامج ممنوع من البث فتحية السعيدي: أيّ وظيفة للإعلام العمومي في سياق التأسيس الديمقراطي للدولة؟

نشر في  13 جوان 2015  (09:21)

بقلم: فتحية السعيدي، أستاذة علم الاجتماع ومعدّة برنامج ممنوع من البث

أثار برنامج ممنوع من البث الذي يبث على القناة الوطنية الأولى بعد بثه لحصّة موضوعها: "المعتقدات الشعبية والمعالجة من الجن"، ليلة الأربعاء 10 جوان 2015، ردود فعل كبيرة من جمهور عريض من المشاهدين بمختلف فئاتهم الاجتماعية والتعليمية، تناولت بشكل إيجابي أو سلبي جوانب من الحصّة، انتقدت خلالها التلفزة الوطنية بصفتها مرفق عمومي "يفترض أن لا تسمج برمجتها ببث الموضوع المطروق، وقد طال النقد أداء المنشّط الذي اعتبره منتقدوه (صحفيون وإعلاميون ونشطاء في المجتمع المدني الديمقراطي ومواطنون) بأنه "ضعيف وسلبي". هذا من جانب ومن جانب آخر، اتجهت انتقادات أخرى ( مواطنون من عموم الناس) إلى نقد المختصين الذين شاركوا في الحصّة وخاصّة المختص في العلوم الشرعية والفقهية السيد بلقاسم القاسمي، والمختصة في علم الاجتماع التي رمَوْها بالإلحاد وبالجهل بصفتها "حداثية وعلمانية لا تؤمن بالجن كما جاء على لسان العديد". مسرح هذه الانتقادات هو شبكة التواصل الاجتماعي التي أصبحت توجّه الرأي العام وتحرّكه في اتجاهات مختلفة. وعليه، يهمّني بصفتي مشاركة في إعداد البرنامج المذكور وبصفتي أحد الذين طالهم هذا الانتقاد الذي وصل حد "التكفير والزندقة والرمي بالإلحاد" توضيح عدد من النقاط:

-النقطة الأولى

 يتناول برنامج ممنوع من البث بالتحليل والمناقشة كل الظواهر والمواضيع الاجتماعية بمعزل عن دقّتها وطبيعتها وفق تمش إعلامي بعيدا عن "الشو أو الفُرجة"، وهو بذلك، لا يبحث عن Buzz وإنّما يستهدف إماطة اللثام عن قضايا ومشاكل اجتماعية متراكمة، تمّ إغفال معالجتها بشكل جدي/عميق على امتداد فترة زمنية طويلة. ويهدف من خلال ذلك إلى التوعية وتحسيس الرأي العام الواسع، بما في ذلك، مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة والمربين بجميع أصنافهم من أولياء ومدرسين وباحثين، وهذا التوّجه له ما يبرّره، فالإعلام العمومي إعلام جماهيري يتميّز باستناده على أهداف موضوعية غير ربحية، كما أنه إعلام قريب من مشاغل المواطنين وقضاياهم الحيوية مهما تنوعت الآراء حول ذلك.

-النقطة الثانية

أعتبر بأن طرق موضوع "المعتقدات الشعبية والمعالجة من الجن"، موضوع على درجة من الدقة والحساسية وطرقه بشكل عقلاني يقع ضمن مهام الإعلام العمومي وليس خارجه. وهو ما جاء في بيان رئاسة المؤسسة الصادر بتاريخ 11 جوان 2015 "من جوهر وظائف المرفق العام تناول مختلف الظواهر الاجتماعيّة المتفشّية من منظور عقلاني وعلمي بغية التصدّي لها والارتقاء بوعي المشاهد وتبصيره بالمخاطر". وفي هذا الصدد، نشير بأن مضمون الحصة وتحديدا آراء المختصين قد عالجت الموضوع المطروق من زوايا ثلاثة: العلوم الشرعية والدينية، علم النفس وعلم الاجتماع.

-النقطة الثالثة 

طرق الموضوع قد شهد وفق الانتقادات التي تابعناها عبر شبكة التواصل الاجتماعي وعبر بعض وسائل الإعلام الخاصة، ووفق تقييم إدارة التلفزة "بعض الانحراف" تمثّل في طول "مقطع طريقة الراقي" وفي "حياد سلبي" للمنشط بما يمكن أن يوحي بأن المؤسسة تتبنى تلك المضامين وتروّج لها حسب المنتقدين من خارج المؤسسة. فإننا نؤكد بأنه على الرغم من "الهنات ومنالانحراف" غير المقصود في طرق الموضوع، فإن البرنامج قد أثار موضوعا/ ظاهرة اجتماعية منتشرة بكثرة داخل المجتمع وبأن عددا من الرسائل قد تمّ توجيهها نلخّصها فيما يلي بأن:

  1. المطالعة وتوسيع الآفاق المعرفية أكبر حصانة للأبناء،
  2. الأعراض التي يشكو منها "الشاب موضوع الشهادة" أعراض نفسية يمكن معالجتها بطرق علمية وبأنه يمكن استغلال تلك الأعراض بشكل منحرف "من قبل دُعاة كُثر"،
  3. لفت نظر الأولياء والمربين إلى مزيد الإحاطة بالأبناء،
  4.  ما قام به "الراقي" هو عملية "متراكاج" ممنهج لغاية الإيهام بأن "جن يسكن الشاب".
  5. الإنسان يمكن أن يرقي نفسه بنفسه بحسب رأي المختص في العلوم الشرعية دون اللجوء إلى أحد،
  6. عالم الجن قد جاء في القرآن ولكن ثمّة مسألة خلافية بين فقهاء الدين حول "ما يعنيه المسّ" باختلاطه بمجموعة من التصوّرات الاجتماعية والمعتقدات الشعبية.
  7. وبأنه في أصول الدين، عندما لا يكون ثمّة اجماع في تفسير السنة النبوية الشريفة فإن إعمال العقل هو السبيل لذلك،
  8. وبأن ثمّة خلط كبير بين الدين الإسلامي بما فيه من قيم تحث على العلم وبين "الدين الشعبي" كما يتمثّله عموم الناس، وفق تفسيرات مختلفة تصل حد التناقض...الخ.

-النفطة الرابعة

حدث داخل الحصة عند تمرير تلك الرسائل وفي محاولة لإرباك المختصين وخاصة معدة الحصّة/ المختصة في علم الاجتماع من قبل "الراقي" الذي افتقد للحجة والبرهنة بأن شكّك في إيمانها بالله، ووفق ذلك تمّ تكفيرها في مجمل الانتقادات التي تابعناها. وهنا نشير إلى أن ذلك المقطع -الذي تمّ الرد عليه باقتضاب خلال البرنامج من خلال التمييز بأن الإيمان بالله شيء وبأن الإيمان بالمعتقدات الشعبية مسألة مختلفة تماما-، يقيم دليلا واضحا على أن عمليات التكفير التي نعيشها في مجتمعنا منذ 14 جانفي إلى اليوم، سندها الوحيد هو مجموعة من الاسقاطات الذاتية لشخوص نصّبوا أنفسهم "شيوخ ووعّاظ"، وهم لا يعرفون من الدين الحنيف سوى ما حفظوه وردّدوه من تفاسير يتمّ تناقلها عبر السماع وعبر الكتب الصفراء التي أغرقت البلاد.

-النقطة الخامسة

نعتبر بأن ما أثاره البرنامج من جدل ومن ردود، فعل إيجابي، لأنه يؤشّر على مسألتين: الأولى، تتمثل في أن مؤسسات المجتمع المدني يقظة وتدافع بشراسة على مؤسسات الدولة أو مؤسسات المواطنة بحسب تعبيري. أما الثانية، تظل القناة الوطنية محل اهتمام الجميع وهي تحظى بمتابعة واسعة من الجمهور العريض رغم ما تعانيه من "وصم اجتماعي" ميّز مشوار أدائها بعد 14 جانفي، فهي كأي مؤسسة عمومية تمثل في المخيال الجمعي "سلطة الغائب وسلطة الحاضر"، دون النظر أحيانا، في الجهد المبذول وفي المحاولات الكثيرة للارتقاء بها لأنها ظلت (وهذا للأسف الكبير) محل نزاع بين صورة اجتماعية قَبْلية تكوّنت على امتداد عقود، وصورة اجتماعية بَعْدية تتشكّل بصعوبة في ظل واقع متغيّر ومتوتر.

-النقطة السادسة

إن منشط الحصّة قد قام بما تسنّى له من جهد لإدارة حوار على درجة من التعقيد والدقّة، وبأن أداءه الذي اعتُبِر ضعيف، ناجم عن حالة من الإرباك الذي حدثت خلال الحصة بعد حوالي 10د من "مشهد أقل ما يقال عليه أنه عنيف"، ولكن هذا الرأي لا يبرّر ضعف إدارة الحوار الذي أشار إليه المهنيون و"هو ما يفسّر الاستغناء عن خدمات المنشط من البرنامج وهو قرار يعود الى إدارة التلفزة". ومع ذلك، نشير بأنه معلوم في علم النفس الاجتماعي، بأن الفرد داخل الجماعة يتأثّر وتتحكّم في أدائه موجّهات نفسية تفرضها النفسية الجماعية التي تتشّكل خلال عملية التفاعل. وقد تمّ توضيح هذه النقطة من معدة البرنامج التي توجهت لتدحض فكرة أخرى للراقي، "مفادها بأن الذي يتأثر فهو مسكون بالجن" من خلال الإشارة إلى القلق والضغط النفسي الذي عاشه جميع من في البرنامج جرّاء ما عاينوه خلال "عرض إخراج الجن".

نشير في النهاية إلى أن رهان الحداثة وعقلنة السلوكيات وتغيير التصوّرات الاجتماعية السلبية التي تترعرع وتنامى خاصة خلال فترة التوترات والتحولات الاجتماعية، وتخليص الدين من الشوائب ليس مسألة بسيطة وهيّنة، ومكافحة الخرافة والهُوام الجماعي والتهيؤات النفسية Hallucinations موضوع دقيق وانحرافاته متعددة ويمكن أن تكون عكسية، ولكن هذا لن يدفعنا إلى القلق والخوف من طرق مثل تلك المواضيع وكشف خباياها حتى وإن "أصبحت حياتي أو أمني الشخصي في خطر". إنّها مخاطر المهنة Risques de métier وإنّه تكويني في علم الاجتماع، هذا العلم الذي يزعج Une science qui dérange وينبش في المسكوت عنه وفي كل المواضيع الاجتماعية. وعليه، أنا أفهم جيدا الضجة التي أثيرت حول البرنامج في اتجاهاتها المتعددة والمتنوّعة والتي أعتبرها مهمّة لأنها أثارت جدلا عموميا تحتاجه ديمقراطيتنا الناشئة ويحتاجه مسار التأسيس للديمقراطية، الذي يتجه حسب رأي نحو تعميق مجال الحرية وترك المجال لصراع الأفكار والحجج، ونحو التأسيس لمفهوم العيش معا وتنقيه الأجواء الاجتماعية المشحونة وتعرية الظواهر الاجتماعية التي تمّ تناسيها على امتداد حوالي 5 سنوات، على الرغم من أنها تمثّل جوهر الإرباك المجتمعي المنعكس على ما هو سياسي وعلى ما هو اقتصادي وعلى المناخ الاجتماعي العام. كما أنها ظواهر يجب الحد من خطورتها وتحليلها في اتجاه إيجاد الآليات الكفيلة لمقاومة آثارها السلبية التي يمكن أن تعيق تطوّر المجتمع.

ويهمّني في نهاية هذا التوضيح الموجه للرأي العام، أن أتوجه بكلمة موجزة لكل من أبدى رأيا مهما كان نوعه ومهما بلغت درجة حدّته، بأن المصلحة العليا لتونس تظل الرهان الأوّل، وبأن تطوير الأداء المهني يتطلّب النقد البناء وبأن الآراء مهما اختلفت فهي ثراء للمجتمع، وبأن البرنامج قد نجح في مستويات وأخفق في مستويات أخرى.